تعديل

الخميس، 10 أغسطس 2017

حدثنا السعد بن عبد الله قال…/ إسحاق الكنتي



وحين أصبحت تركيا “رجل أوربا المريض” يقضم الأوربيون أطرافها لم ينقذها سوى ضابط وطني؛ كمال أتاتورك. هذه الحساسية من “أصحاب البدلات” التي يتباهى بها بعض مثقفينا من باب التزام ما لا يلزم؛ فقد كان الأديب الأشهر أندريه مالرو وزير ثقافة الجنرال ديغول، وكان محمد حسنين هيكل رحمه الله ظل المقدم جمال عبد الناصر، ولم يقدح ذلك في مكانة المثقفين، وما كانت هجائيات هوغو في نابوليون من عيون شعره…
يلتزم السعد المقدمة الطللية عن الجمهورية الأولى التي “لو قرأنا بأثر رجعي..”تجربتها التاريخية “وفرص تحولها لتأملنا… أن تسفر عن نظام ديمقراطي…كما حدث في السنغال،”… “تأمل”النظام ذاته، وجيرانه، وتأملته نخبته المعارضة والموالية فتمخض كل ذلك عن ميثاق وإعلان حرب أودت به في النهاية… أما أن يتمنى مثقف لبلاده أن تكون مثل السنغال فهو دليل على طموح متواضع.
رغم نفيه المبكر، يسهب السعد في التأريخ للأحكام العسكرية، ولـ “جمهورية لابول”، ثم تصل المقامة عقدتها عند النظام القائم مدشنة حبكة جديدة في سرد عجائبي يشطح فيه الخيال فيركب “رأس مدني على جسد عسكري”، وينشئ خطابا “على الخطاب الجديد للسلطة” يحمله مضامين يمارس من خلالها “إغفالا وعن وعي للمكتسبات الهامة…” ينعى السعد على الخطاب الذي ينسبه للسلطة “فتح المنصات الإعلامية أمام كل من هب ودب،…” وينسى السعد أن الإعلام أصبح مشاعا، فلكل فرد وسيلته الإعلامية الخاصة، وحرية التعبير مصانة في البلدان التي تحمي الحريات العامة مثل بلدنا. وقد أثبتت سياسة التكميم فشلها عبر العصور.. يستنتج السعد أن كل ذلك “أدى إلى احتقار المعلومات…” يصدق هذا على مقامته التي لم ترد فيها معلومة واحدة وإنما اعتمدت الإنشاء، و”انفلات التعبير” من قيد الموضوعية وسلطة البرهان، ليركن إلى كيل الاتهامات جزافا..”وأشاع خطابا من التجهيل والتسفيه والسفسطة والإساءة…” لم تسلم مقامة السعد من هذه الأوصاف التي يدينها حين يصف “السواد الأعظم من الموالاة” [أين يضع نفسه!] بـ”الوصولية والانتهازية والمغنمية…”، ثم يلحق بهم “فاعلين جددا لا سقف ولا تحفظات لديهم فيما يتعلق بموقفهم السياسي.” جاء السعد إلى الموالاة من بوابة “فاعلين جددا” دخل منها إلى وظيفة تفرض على صاحبها “تحفظات” في التعبير، وسقفا للطموح يحترم “قيم التنظيم الإداري الموريتاني.”
يمكن أن نتجاوز للسعد توصيفه الخاص للخطاب الإعلامي السائد، لكن حين يتعلق الأمر بالمعلومات فلا بد من التدقيق حتى لا يحسب القارئ “القول المنفلت” حقائق ثابتة. فليس صحيحا أن صاحب خطاب “الشتيمة والإساءة” يفلت من العقاب “دون أن يطاله قانون أو جزاء.” فقد دخل بيرام السجن فور “محرقته” وظل قابعا فيه بحكم القانون، إلى أن أعلن توبة حسبناها نصوحا… وحين هدد السلم الاجتماعي بخطابه المنفلت، في لكوارب طالته يد العدالة فعاد إلى السجن. ولا يزال المسيء إلى نفسه خلف القضبان بحكم القانون، أم يريد السعد أن نعد على المواطنين أنفاسهم فنقمع “كل قول منفلت” في زمن تسوده ثقافة الحريات العامة حيث يتقاسم الأفراد مع السلطة العمومية مسؤولية الحفاظ على السلم الاجتماعي عبر الرقابة الذاتية المسؤولة التي تقدم المصلحة العامة على النزوات الفردية. ما يدعو إليه السعد هو نظام رقابة بوليسي وضع له هذا النظام حدا حرصا على حرية التعبير التي قد يستغلها “آحاد محددة من الناس” لإشاعة “قول منفلت” يهاجم فيه دبلوماسي نظامه في وسائل الاتصال الاجتماعي!!!
ينتقل السعد من الكلام المرسل، إلى البناء للمجهول..”فُتح الباب.. اتُخذت الإجراءات.. تم القضاء…” ليعلم السعد أن “إدانة الفعل السياسي العام” تتطلب إثبات وقائع حقيقية بالبرهنة الدقيقة، فلم تفلح المرافعات البليغة، ولو بلغت مستوى “J’accuse !”، في تبرئة أو إدانة، وإن عدت من التراث الأدبي الرفيع… “أما المصطلحات التي لا تدل على شيء…” فهي من “القول المنفلت”، من قواعد المنطق والذوق السليم؛ فليست هناك مصطلحات “لا تدل على شيء”، لأن ما اصطلح عليه الناس له معنى بالضرورة علمه من علمه وجهله من جهله…
ينتقل السعد من “القول المنفلت” إلى “تعويم السخف” [العبارة له] حين يتعرض للإصلاحات الدستورية التي أقرها الناخب الموريتاني بنسبة زادت على الثمانين في المائة، فيتهمها بـ”إفراغ الدستور الموريتاني من قيمته الرمزية والفعلية…” ولا يحدد السعد، كعادته، تلكم القيمة الرمزية والفعلية! فليس هنالك دستور مكتوب لم يتعرض للتعديل والإصلاح، وليس هنالك دستور مكتوب لا تطاله “تعديلات أخرى”، تغير مواده مهما كان تحصينها، وقد تغير نظام الحكم… والتهويل بأن التعديلات “ستكون كارثية…” إذا طالت “المواد المتعلقة بالفترات الرئاسية”… لا سند له من الواقع؛ فالعديد من البلدان لا تحدد فيها الفترات الرئاسية ولم تقع فيها كوارث بسبب ذلك، وبعضها الآخر ألغى تلك المواد ولا تزال الشمس تطلع عليه من المشرق… أما تغيير نظام الحكم فقد سبق إليه نظام الحكم المدني الذي كنتم “تتأملون” أن يتطور ليصبح “مثل السنغال”، فلم نسمع منكم “نعيا” ولا “إدانة”!!!
لا يفوت السعد أن “يركب” الشيوخ، مثل آخرين، مدعيا أن مجلسهم يشبه “عامل توازن…” وهو ما تثبت التجربة منذ تسعينيات القرن المنصرم عدم صحته؛ فقد ظلت الغرفة الأولى ملاذا هادئا لرجال الأعمال والوجهاء، لم تلعب يوما واحدا دور عامل التوازن الذي يتصوره السعد. فلم يعترض الشيوخ على نص واحد سوى ذلك الذي يقضي بحلهم وفقا لإرادة الشعب…
“وأخيرا كيف لنا أن نأسس [نؤسس] لخطاب جديد ومتجاوز للموالاة من أجل السلطة والمعارضة لأجلها؟” يترك السعد السؤال معلقا ولو اعتنى بالإجابة عليه بدل ما انشغل به من “التخوين والتضليل والافتراء والشتيمة…” كان أفضل مدخل لخطه الجديد “غير مفهوم المآلات، وإن فهمت الدوافع…” فالمشهد الموريتاني اليوم ينفتح” على آفاق جديدة تبشر بمشروع وطني وخطاب معرفي يتجاوز ثنائية الموالاة من أجل السلطة والمعارضة من أجلها. فمع الإصلاحات الدستورية الجديدة، وما قد يتبعها، نؤسس موريتانيا الجديدة على شرعية المقاومة الوطنية، فخورة بماضيها المجيد سعيدة بحاضرها الزاهر، متطلعة إلى مستقبلها الواعد… لكنها بحاجة إلى نخبة مثقفة لا تمارس “إغفالا وعن وعي للمكتسبات الهامة…” لتشيع “خطابا من التجهيل والتسفيه والسفسطة والسخف والإساءة” سعيا وراء صورة نمطية لمثقف هجّاء “لا يرى في الوجود شيئا جميلا”. إننا على عتبة عصر جديد يقطع مع ممارسات الأنظمة السابقة، ويطمح إلى تغيير عقليات المجتمع، وتجديد النخبة السياسية، وإنتاج خطاب وطني عقلاني يبرز هوية الأمة، ويحمي خصوصياتها، ويشجع “تطور نخب مدنية ترفض التبعية [للخارج] وتؤمن بالتعاون” من أجل بناء الوطن على قواعد العدل والمساواة، وتحقيق التنمية المستدامة على كافة التراب الوطني…
وأخيرا، ربما فضل السعد لو أطلقنا على مكتوبه “مقالة”، بدل “مقامة”.. لكن الإبدال من أساليب العرب، ونتفهم تمسكه بلام “الجحود” الذي اختاره “وعن وعي…” في “قالته”… رحم الله الجاحظ.. فقد “تأمل أحوال الناس…”
ينفي السعد وجود ديمقراطية موريتانية، ويثبتها “في أذهان ساسة أرادوا ديمقراطية على مقاس بدلاتهم،…” وبذلك ينخرط في جمعية المثقفين المعادين لأصحاب البدلات ليبرهنوا على عمق ثقافتهم، وانحيازهم للديمقراطية!!! ونسي السعد أن “أصحاب البدلات” هم الذين تلجأ إليهم الأوطان في ساعة الشدة لتأمينها وبنائها، وتأهيلها للديمقراطية. فلم تمنع الجنرال دلافايت ألقابه وبدلته من مناصرة الثورتين الأمريكية والفرنسية. وحين وقعت فرنسا تحت الاحتلال النازي كان المقدم ديغول هو من رفع لواء المقاومة، وسيلجأ إليه الفرنسيون لاحقا، رغم بدلته، حين فشلت ديمقراطيتهم العتيدة، ليفصل ديمقراطية على مقاسه لبسها كل الذين جاؤوا من بعده، رغم “ضخامته” و”ضآلة” بعضهم، حتى الذين وصموها بالانقلاب الدائم…

“إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا لعمري من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.” ينطبق هذا القول المأثور على “نعي الديمقراطية وإدانة الفعل السياسي العام”، لكاتبه السعد بن عبد الله.. فلو استقبل من مقامته ما استدبر لم يبدأها بالنفي، ولم يختمها بالتشكيك. فما كان طرفاه سلب وتشكيك لن يكون متنه سوى “إغفال عن وعي للمكتسبات”، وهو “شر” أتاه صاحبه من حيث خاف أن يقع فيه…

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More